الأحد، 27 أكتوبر 2013

قصيدة تبلدية للشاعر السوداني : جعفر محمد عثمان خليل



 نص مشروح قصيدة تبلدية
إعداد وشرح وتحليل د. أبوهداية محمد إسماعيل
أستاذ مشارك جامعة كردفان كلية التربية


للشاعر: جعفر محمد عثمان خليل

شاعر سوداني معاصر ولد بوادي حلفا،وتلقى تعليمه بمصر حتّى تخرّج في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة،ثمّ نال دبلوم التربية من جامعة عين شمس،وعمل بوزارة التربية حتّى وصل إلى منصب كبير رؤساء شعب اللغة العربية.

أوفد إلى فرنسا فنال دبلوم تدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها،وعُين مستشاراً ثقافياً لبلاده بالمغرب،وكان لثقافته العربية العالية وحسّه الفني المرهف أثر في تجويد صياغته،وأنْ يكون شاعراً مطبوعاً فجاء شعره سلس التعبير دقيق التصوير.

مناسبة القصيدة:كان الشاعر بمدينة الدلنج،وكانت تلك الشجرة بداره،شهد أيام شبابها كما شهدت أيام شبابه،ثم فارقها بعد طول إلفة،فكتب هذه القصيدة يعبر فيها عن شوقه وحنينه.        

                               النص:                    ذكرى وفاءٍ وودِّ        عندي لبنت التبلدي

في كلّ خفقة قلبٍ          وكلّ زفرة وجدي

فيا ابنة الروض ماذا   جرى لمغناك بعدي؟

مازلتِ وحدك إلفي    يا ليتني لك وحدي

المعنى:اتّخذ الشاعر من تلك الشجرة محبوبة يناجيها قائلاً:إنّه لم يزل وفياً لذكراها التي لم تفارقه أبداً،فهو يتذكرها مع كل خفقة من خفقات قلبه ومع كل زفرة من زفرات وجده،ويسألها عمّا حدث لمكانها بعد رحيله عنها،ويخبرها إنّه لم يحبب سواها ويتمنى ألا يشاركه أحد غيره حبّها،أي ألا يحببها أحد سواه.

الصورة الجمالية:كنّى عن الشجرة بـ(بنت التبلدي بابنة الروض)،وتشخيصها في صورة المحبوبة التي ناجاها وخاطبها(استعارة مكنية).والاستفهام تعجبي.

النّصّ:                                                 هل تذكرين عهوداً قد      عشتها في جنابك؟

وهل شـــجـــاك غيــــــابي ؟   إنّي شجٍ لغيابك

مازلت في البــــــــعد   أحيا كأنني في رحابك

هذا شبـــابي يولي      فكيــــف حال شبابك؟

المفردات:شجاك:أحزنك،شجٍ: حزين.

المعنى:يسأل الشاعر تلك الشجرة- ألم تزل تتذكر عهوده معها؟ وهل أحزنها غيابه عنها كما أحزنه غيابها عنه؟ إلا أنّه رغم البعد لم يزل يذكرها دوماً ولم تفارق خاطره كأنه يعيش معها،ثم يتحسر على شبابه الذي ولّى ويسألها عن حال شبابها.

الصورة الجمالية:يستمرّ الشاعر في تشخيصه لتلك الشجرة إذ يصورها في صورة فتاته الحسناء مناجياً لها،ومستفهماً عن أشياء مشتركه بينهما في صور عديدة للاستفهام ما بين الإنكار والنفي والتعجب.



                           النص:                    لا تحزني إنْ تعرّتْ     لدى المصيفِ فروعك

أو إنْ يبستِ فبانتْ       من الذبول ضلوعك

فدون ما راع قلبي      من الأسى ما يروعك

أنا لن يعود ربيعي           لكنْ يعود ربيعك

المفردات:راع قلبي:أحزنه ،ربيعي: أراد به شبابي.

المعنى:يناجي الشاعر التبلدية قائلاً:إذا ما أتاك الصيف وأسقط أوراقك فتعرّتْ فروعك أو يبستِ فبانت أغصانك عارية فلا تحزني لأنّ خضرتك ونضارك ستعود إليك مرّة أخرى مع عودة الخريف،ولكنّ مصابي أكبر من مصابك لأنّ شبابي الذي ولّى لن يعود إليّ مرة أخرى كشبابك الذي يولي ثم يعود إليك.

الصور الجمالية: استخدم الشاعر أسلوب النهي بغرض التمني ،وأسلوب التشخيص في مناجاتها،والاستعارة التصريحية في استعارة الربيع للشباب حيث شبّه الشباب بالربيع.

                         النصّ:                           ياربّ صيفٍ تجنّى      على بديعِ جمالكْ

وأشعل التّربَ شوقاً     إلى وريفِ ظلالكْ

أبلى شبابَك لكنْ زاد       البِلَى من جلالكْ

ومن غصونك كفٌّ      رفعتها في ابتهالكْ

المعنى:يواصل الشاعر مواساته للتبلدية قائلاً:يارب صيف اعتدى على جمالك البديع فأسقط ورقك حيث لم يعد لك ذلك الظلّ الجميل،ولكنّه مع ذلك فقد زادك جلالاً وعظمة حيث بدتْ غصونك العارية كأنّها أكفّ رفعتها ابتهالاً وتضرّعاً لله تطلبين الغيث والإغاثة.

الصورة الجمالية:تجسيد الصيف في صورة المعتدي على جمال الشجرة ،وتشخيص الترب في صورة الإنسان المشتاق،واستعار الاشتعال لشدة الشوق(مكنية)،وتشخيص التبلدبة في صورة المحبوبة التي يناجيها،والصورة التخيلية البديعة حيث تخيّل غصونها العارية أكفّاً ترفعها الشجرة ابتهالاً لله.

                            النّصّ:                     وجاء عيدك طلْقاً             له ابتسام البشيرِ

يتيه حسناً ويزهو       في موكب من زهورِ

وأصبح الكون روضاً        مضمّخاً بالعبيرِ

فكنتِ عذراء زانتْ     عُرْسَ الوجود الكبيرِ

المفردات:عيدك :أراد به الخريف،طلقاً : مبتسماً،يتيه:يختال،يزهو :يُعجب بنفسه.

المعنى:وعندما جاء الخريف فرحاً مبتسماً كابتسام البشير مختالاً معجباً بجماله تصحبه جماعة الزهور وقد أصبح الكون كروض عطرته الأزهار بعبيرها،وكنتِ أنتِ كعذراء إزدان بها الوجود في يوم عرسه.

الصورة الجمالية:استعار العيد للخريف،وجسّد الخريف في صورة إنسان يأتي فرحاً ومبتسماً،وشبه الكون بالروض(تمثيلي)والشجره شبهها بالعذراء،وشخّص الوجود بأن استعار له العرس.

                            النّصّ:                       حيناً من الدهر عشنا   ياجارتي في حبورِ

يزهو كلانا بعود       من الشباب نضيرِ

فكنتِ أجمل عشٍّ      لساجعات الطيورِ

وكنتُ عشّ العذارى   من كل عِينٍ وحورِ

المفردات:حبور:سرور،الساجعات:الطيور المغردة،العِين:واسعات العيون،الحور:شدّة بياض العين مع شدّة سوادها.

المعنى:يتذكر الشاعر ماضي أيامه معها عندما كانا يعيشان في سرور،وقد كان كلاهما يختال معجباً بشبابه الغضّ،وقد كانت التبلدية عشّاً أنواع من الطيور المغردة،وكان قلب الشاعر منزلاً للحسان من الفتيات.

الصورة الجمالية:شخّص التبلدية في صورة فتاة يناجيها واستعار العش لنفسه واستعار الطيور للعذارى.

                            النصّ:                      يا جارتي لستُ أنسى     يوم الوداعِ الحزينِ

وأنتِ في الصمتِ حيرى    وربّ صمتٍ مبينِ

مددتِ نحوي غصوناً           كاذرعٍ تحتـــويني

فكدتُ إذ صافحتني        لها أمدّ يميـــــــــــــني

المعنى:يصوّر الشاعر يوم فراقه لتلك التبلدية،وقد كان يوماً حزيناً ظلّ عالقاً بذكرياته،وقد بدتِ الشجرة صامتة حائرة ولكنّ صمتها أدلّ على حالها من الكلام،حيث يقول في ذلك الشاعر نزار قباني:

فإذا وقفتُ أمام حُسنك صامتاً    فالصمتُ في حرم الجمال جمالُ

كلماتنا في الحبّ تقتال حبَّنا        إنّ الحروفَ تموتُ حين تُقالُ

وقد نظر الشاعر إليها في تلك اللحظات الحزينات فرأى غصونها من فرط حزنه فتخيلها أذرعاً للشجرة مدّتها لمصافحته عند الوداع فأوشك أن يمدّ إليها يمينه ليصافحها.

الصورة الجمالية:شخّص التلبدية في صورة فتاة يناجيها،وشبّه غصونها بالأذرع ،وبلغ به التخييل إلى أنْ تخيّل أغصانها أكفاّ تمدّها نحوه الشجرة في يوم وداعه لمصافحته.

                          النّصّ:                    وكم تلفّــــتُ خلفي   بحســـــــرةٍ و التيــــــــاعِ

والركب يمضي بعيداً     عن حالمات البقاعِ

وللغصون الأعالي   في الريحِ خفق الشراعِ

كأنّها منــــك كفٌّ         قد لوّحتْ في وداعي

المفردات:التياع :شدّ الحزن،الركب :جماعة المسافرين،حالمات:جمع حالمة أي صبية،البقاع : المكان.

المعنى:يصف الشاعر رحيله عن تلك الديار ملتاعاً لفراقها،وقد أخذ يبتعد شيئاً فشيئا،فالتفت خلفه ينظر إلى المدينة فلم يرى غير التبلدية وقد بدت أغصانها تهتزّ مع الرياح كاهتزاز الشراع  فتخيلها الشاعر كفّاً تلوّح بها الشجرة في وداعه.ويقول الشاعر القديم:

وتلفّتُ نحو الحيّ حتّى وجدتني     وجّعتُ من الإصغاء ليتاً وأجدعا

(الليت  والأجدع:عرقان بالظهر)

وقال آخر:

وتلفّتتْ عيني فمذ خفيتْ    عنها الطلول تلفّتْ القلبُ

الصورة الجمالية:كنّى عن مدينة الدلنج بأرض حالمات البقاع،وفي تشبيه تمثيلي شبّه الغصون التي تلوّح بها التبلدية بأكفّها لوداعه.

                            النّصّ:                     ياجارتي أين مني       عهد الهوى والفتون ؟

وأين صفوي ولهوي    في ماضيات السنين ؟

قد ضمّـهنّ فــؤادي    وحاطهـــــــــنّ حنيــــــني

فلتذكريهــــــنّ مثلي     على المدى واذكريني

المعنى:يتحسّر الشاعر على أيام هواه ولهوه التي انقضت بالقرب من تلك الشجرة إلا أنّها لا تزال خالدة في فؤاده يحنّ إليها دائماً ويطالبها بأن تتذكر تلك الأيام ،وتتذكره معها كما يتذكرها هو.

الصورة الجمالية:تشخيص الشجرة بقوله:(ياجارتي)وإظهارها في صورة فتاة يطلب منها أنْ تتذكره،وتذكر أيامه معها.

                            النّصّ:                          يا غادة الأيك عام      يمرّ من بعد عامْ

ولا تزالــين ذكـرى  بقلــــبي المستـــــهامْ

يا رُبا السحر حيا  ثراك هامي الغمامْ

وياربيـــــع شبـــــابي    عليك ألف سلامْ

المفردات:الغادة:الحسناء،الأيك: الشجر،المستهام :العاشق،رُبا جمع ربوة المكان المرتفع،السحر:الحسن والجمال،وربا السحر أراد بها الدلنج،هامي:هاطل.

 المعنى:يصفها ويدعوها بغادة الأيك (أي حسناء الشجر)ويضيف:تمضي الأيام وتبقى ذكراك خالدة بقلبي العاشق، ويصف تلك الديار يدعوها بربا السحر ويدعولها بالسقيا على عادة الشعراء القدامى،ثمّ يختم القصيدة بتحسره على شبابه.

الصورة الجمالية:كنّى عن الشجرة بغادة الأيك،وعن الدلنج بربا السحر،وشخّص الشجارة بأن استعار لها الغادة وناجاها. واستفهم متحسراً عن عدم عودة شبابه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق