شرح نص قصيدة الحطيئة في قصة الكرم
إعداد وشرح وتحليل .د .أبوهداية محمد إسماعيل محمد
الكرم سمة من سمات
العربي أينما وُجد ،فقد اشتهر بعضهم حتى ضربوا فيه المثل ،قالوا في المثل : "
أكرم من حاتم "
واليوم سنكون في ضيافة
شاعر عربي في عمق الصحراء بكل قساوتها . أدرك الجاهليّة وأسلم في عهد أبي بكر الصدِّيق ، لا يُعرف له نسب
فشبَّ محروماً
مظلوماً
لا يجد من أهله عوناً أو مددا ،فاضطرّ إلى قرض الشعر يجلب به قوت عياله ،ويدفع عن نفسه
الظلم والعدوان ، عاش في بيئة ظلمته فزادت في أوجاعه وجعا ،ولعلَّ هذا الظلم الذي دفعه لهجاء كل من حوله ، فهجا
أمَّه وأباه
وزوجته
،حتى نفسه لم تسلم من الهجاء . إنه الحطيئة ، تعالوا نتعرَّف على هذا المظلوم من خلال
قصيدة الكرم .
النصّ :
وطاوي
ثلاثٍ عاصبِ البطنِ مرملٍ بتيهاءَ
لم يــعرفْ بها سـاكن رَسْمــا
أخي جفوة ٍفيه من الإنـس وحشــــةٌ يرى البؤسَ فيها من شراسته نُعمـى
وأفرد في شعبٍ عــجـوزاً إزاءَهــا ثــلاثــة أشـبــاح تـخــالهــم بَـهمـــا
حُفاةٍ عُراةً مــا اغتذوا خـبـز مــلــة ولا عــرفوا للبُّر مذ خُــلِقوا طــعمـا
رأى شـبحاً وســط الـظلام فـراعـه فـلمّــا بـدا ضيفــاً تســوَّر واهتــمَّــا
وقال هيا ربّــاه ضــيفٌ ولا قِــرى بحقِّــك لا تحــرمـه تــالليــلة اللـحما
وقــال ابـــنه لــمّــا رآه بــحــيــرةٍ أيــا أبــتِ اذبــحنــي ويسِّر له طُعما
ولا تعتــذر بالعــدم علَّ الذي طرا يــظنُّ لــنــا مــالا فــيوسعـنــا ذمّــا
فــروّى قــليـلاً ثمّ أحــجـم بــرهةً وإن هــو لــم يــذبـح فــتاه فـقد همّا
فــبيناهــما عنَّت على البعــد عانةٌ قد انتظمت من خلف مسحــلها نظمَا
عِـطـاشًا تريد الماء فانساب نحوها علـــى أنّــه مـنهــا إلى دمهــا أظــما
فأمهــلها حتى تروّت عِــطــاشُهــا فــأرســل فيها من كــنانــته ســهــما
فخرَّت نحوص ذات جحشٍ سمينةٌ قد اكتنزت لحمًــا وقد طبّقت شحــما
فـيـا بِــشره إذ جــرّهــا نحو قومه ويا بشــرهــم لــمّا رأوا كــَلمها يدمى
فباتوا كرامًا قد قضوا حقّ ضيفهم فلم يغرموا غُرمًا وقد غــنموا غُــنما
وبات أبــوهم مــن بشاشــتــه أبــا لــضيفــهم ُ والأُمُّ من بشــرهــا أُمّــَا
أخي جفوة ٍفيه من الإنـس وحشــــةٌ يرى البؤسَ فيها من شراسته نُعمـى
وأفرد في شعبٍ عــجـوزاً إزاءَهــا ثــلاثــة أشـبــاح تـخــالهــم بَـهمـــا
حُفاةٍ عُراةً مــا اغتذوا خـبـز مــلــة ولا عــرفوا للبُّر مذ خُــلِقوا طــعمـا
رأى شـبحاً وســط الـظلام فـراعـه فـلمّــا بـدا ضيفــاً تســوَّر واهتــمَّــا
وقال هيا ربّــاه ضــيفٌ ولا قِــرى بحقِّــك لا تحــرمـه تــالليــلة اللـحما
وقــال ابـــنه لــمّــا رآه بــحــيــرةٍ أيــا أبــتِ اذبــحنــي ويسِّر له طُعما
ولا تعتــذر بالعــدم علَّ الذي طرا يــظنُّ لــنــا مــالا فــيوسعـنــا ذمّــا
فــروّى قــليـلاً ثمّ أحــجـم بــرهةً وإن هــو لــم يــذبـح فــتاه فـقد همّا
فــبيناهــما عنَّت على البعــد عانةٌ قد انتظمت من خلف مسحــلها نظمَا
عِـطـاشًا تريد الماء فانساب نحوها علـــى أنّــه مـنهــا إلى دمهــا أظــما
فأمهــلها حتى تروّت عِــطــاشُهــا فــأرســل فيها من كــنانــته ســهــما
فخرَّت نحوص ذات جحشٍ سمينةٌ قد اكتنزت لحمًــا وقد طبّقت شحــما
فـيـا بِــشره إذ جــرّهــا نحو قومه ويا بشــرهــم لــمّا رأوا كــَلمها يدمى
فباتوا كرامًا قد قضوا حقّ ضيفهم فلم يغرموا غُرمًا وقد غــنموا غُــنما
وبات أبــوهم مــن بشاشــتــه أبــا لــضيفــهم ُ والأُمُّ من بشــرهــا أُمّــَا
الشرح
والتحليل :
بدأ الشاعر قصيدته
بوصف حال الأب وما يبدو عليه من علامات البؤس والفقر،فهو يعاني من الجوع منذ ثلاث ليالي ،ولذلك يستهلُّ الشاعر صوره
الجميلة بصورة
الأب
وقد عصب بطنه بعد نفاذ زاده في الصحراء الخالية من السكان ،ولا يبدو عليه أيّ أثر للنعمة ،
يعاني من الوحشة و الوحدة ما يعاني ، حتى بات يرى فقره نعمة مقارنة مع ما يعانيه من وحدة ووحشة .
ينتقل بنا الشاعر
بأسلوبه الجميل يصف حال أولاده وزوجته الذين يعيشون دون طعام أو شراب ،فتبدو عليهم قسوة الحياة ؛حفاة،عراة ،ما
اغتذوا خبز مَلَّة
،هذه القسوة وهذا الجوع
حوَّلهم إلى أشباح ،فهم لا يعرفون للخبز طعماً مذ خُلقوا .
هذه المقدِّمة وضعنا
فيها الشاعر تمهيداً لبدء أحداث القصة عندما رأى الأب شبحاً قادماً من بعيد ،هذا الشبح أثار في نفسه الخوف
والريبة ،ولكن عندما
تبّن
أنه ضيف ثار وانفعل واعتراه الهم ،وشرع بالتَّوسل إلى الله أن يرزقه الطعام ليقدِّمه للضيف
. وعندما رآه ولده في حيرة من أمره قال له : اذبحني وقدِّم له لحمي طعاماً ولا تعتذر له حتى لا يظن أن لدينا
المال ونمنعه
فيذهب
بنا ذمّاً بين القبائل
بدأ الأب التفكير
بالعرض المغري الذي قدَّمه الابن ، وبعد تفكير عميق بين التَّردد والقلق همَّ بذبحه ،وفجأة وبصورة سينمائيّة تظهر
من بعيد قطعان من
البقر
الوحشي تقصد عين الماء ،فانساب نحوها ،وأمهلها لتروي عطشها اصطاد من بينها واحدة سمينة ،
بها بشَّر أهله وتخلَّص من دائرة الإحراج أمام الضَّيف
كما وفِّق الشاعر في
مطلع قصيدته ،وُفِّق في اللقطة الختاميّة ،حيث أشعرنا بنهاية القصة القصيدة إذ أوحى لنا بذلك عندما قال : "
فيا بشره إذ جرَّها
نحو
قومه
الصورة الفنيّة
:
عجَّت القصيدة
باللوحات الفنيّة و الصور الرائعة التي استمدَّها من البيئة المحيطة ومن مخزونه الثقافي ،موظِّفاً
هذه الصور لشدّ
انتباه
المتلقي ، ظهر هذا في مطلع القصيدة عندما صوَّر الأب وقد شدَّ بطنه بعصبة ليخفف ألم الجوع
،وهذه عادة في مجتمع الفقراء فنقول: شدَّ على بطنه حجراً ليخفف ألم الجوع . وفي البيت الثالث يقدِّم صورة
العجوز في طريق بين
جبلين
، وإلى جانبها ثلاثة أطفال بصورة أشباح لنحول أجسامهم ،و يُتبع الصورة بصورة أُخرى
ليزيد من حجم المأساة عندما يصوِّر أطفاله بولد الضان الهزيل
في البيت السابع تبرز
صورة الأب محتاراً في حالة تردد واضطراب ،إذ أقبل إليه ولده يطلب منه ذبحه وتقديم لحمه
للضيف ،هذه الصورة
تدلُّ
على أن القرآن الكريم مصدر من مصادر ثقافة الشاعر ،إذ تعيد إلى أذهاننا مشهد شيدنا
إبراهيم الخليل عندما همَّ بذبح سيدنا إسماعيل فافتداه الله بكبش سمين ،وهذا هو الله تعالى يفتدي الابن بنخوص
ممتلئة الشَّحم
واللحم
.
ورغم الجوع والعطش إلا
أن الشاعر أبدع في تصوير حركة الأب المتعطّش للحم الحمر الوحشيّة ، الذي انساب نحوها
بهدوء كي لا تنفر ،
وأبرز
الجانب الإنساني عندما أمهلها حتى شربت وارتوت ،،ثمَّ أخرج من جعبته سهما أرسله فأصابها
باختصار كانت الصور
عند الحطيئة زاخرة بالحركة و الحيوية ،تعبيريّة بعيدة عن التقريريّة والجمود
الأفكار
الرئيسة :
بعد شرح المعاني
وتوضيح الصور الفنيّة في النص ، نستطيع الوقوف على الفكرة العامة من خلال الأفكار الفرعيّة التي
جاءت مرتبطة
بالقيم
الاجتماعيّة وأبرزها الكرم ،وُفِّق الشاعر بعرضها مستعيناً بالصورة الفنيّة الرائعة التي
استطاع أن يرسمها بدقَّة متناهية ليشد انتباه المتلقي وحثَّه على تصوّر المقطع المشهدي ،لاسيما أن القصيدة تنتمي
إلى الشعر القصصي
وتحتاج إلى تصوّر ذهني من المتلقي . فتعالوا نتعرّف إلى هذه الأفكار
1- وصف الأب والأبناء في الصحراء 2- مقدم الضيف والحوار
بين الأب والابن
3- اصطياد واحدة من الحمر الوحشية 4- فرحة الأب والزوجة بإكرام الضيف .
من خلال هذه الأفكار الفرعية نستنتج الفكرة العامة " الكرم العربي رغم البؤس "
لعبت براعة الشاعر دوراً بارزاً في الانتقال من فكرة إلى فكرة أخرى والربط بين الفكرة والتي تليها دون أن يشعرك في عمليّة الانتقال وهذا ما يطلق عليه حسن التخلّص
3- اصطياد واحدة من الحمر الوحشية 4- فرحة الأب والزوجة بإكرام الضيف .
من خلال هذه الأفكار الفرعية نستنتج الفكرة العامة " الكرم العربي رغم البؤس "
لعبت براعة الشاعر دوراً بارزاً في الانتقال من فكرة إلى فكرة أخرى والربط بين الفكرة والتي تليها دون أن يشعرك في عمليّة الانتقال وهذا ما يطلق عليه حسن التخلّص
. لغة النص :
برع الحطيئة باختيار
ألفاظ القصيدة التي جاءت منسجمة مع الجو العام ،فقد وظَّف لوصف حال الأب والزوجة والأبناء في
الصحراء ألفاظاً
تحمل
دلالات الفقر والوحشة مثل : طاوي ،عاصب البطن ،مرمل ،أخي جفوة ،بؤس ،أشباح ،حفاة،عراة . هذه الألفاظ تستطيع أن تحمل دلالات القلق
والخوف من المجهول ،
وفي لحظات القلق والخوف وظَّف ألفاظاً لوصف الحالة الانفعاليّة المهزومة لما أصابها
من همِّ وغمِّ لمقدم الضيف ، حتى في تلك اللحظات التي عرض ابنه عليه ذبحه نحو؛ يسوَّر، راعه ، حيره ، اهتمَّ
هذه الانفعالات النفسيّة
التي عاشها الأب ، دَفَعَته
للاستغاثة
، وقد أبدع الشاعر في رسمها من خلال استخدام أساليب الاستغاثة والقسم والدعاء
للدلالة على حجم المعاناة والقلق والحاجة الماسَّة لاستجابة الله لدعائه ، فقال : " هيا ربَّاه ضيف ولا قرى "
وكذلك " بحقِّك لا تحرمه تالليلة اللحما
حتى في مشهد ورود
الحمر الوحشية إلى الماء رسم صورته بطريقة هندسيّة " انتظمت من خلف مسحلها " ،
" وأرسل من كنانته سهما " ، فقد أحسن في توظيف اللفظ أرسل للدلالة على الهدوء والثقة ،
ولذلك كانت رميته
صائبة
، في حين لو استخدم اللفظ رمى لكانت الصورة موحية بالاضطراب والتسرّع ، وربما كانت رميته طائشة
ولأن الشاعر بنى
قصيدته على التوتّر والقلق ، شاع استخدام الأفعال الدالة على الحركة لإشاعة الحركة داخل النص
التي من شأنها
تقريب
المشهد عند المتلقَّي ، فوظَّف الأفعال ؛اذبحني ، أحجم ،خرَّت ،جرَّ ،انساب ، هذه الأفعال جعلت الصور مشحونة بالحركة " أرسل من
كنانته سهما " صورة
حركيّة تدلّْ على العزم والتصميم ، " أمهلها حتى تروَّت عطاشها " صورة حركيّة وهو يترقَّب
بقلق .
العاطفة:
تنوَّعت العواطف في
النص ، فجاءت خليطاً بين البؤس والحزن والقلق والتوتّْر ، وبرزت بشكل واضح :
ـ عاطفة الرِّضى والقبول بالأمر الواقع ،وهو قسوة الحياة . ـ عاطفة الأسى والحزن على الأبناء
ـ عاطفة الخوف من التقصير بحق الضيف ـ عاطفة البُشرى
والفرح بالصيد الثمين .
الموسيقى :
بنى الشاعر قصيدته على
البحر الطويل ، هذا البحر منحه طول نفس في البيت الواحد ، ومنحه مساحة واسعة ليعبّرِ عن
انفعالاته النَّفسيّة
مستخدماً قافية الميم وألف الإطلاق التي جاءت مناسبة لموضوع القصيدة ، وساعدته على إطلاق آلامه وشكواه من قسوة الحياة .
عناصر
القصَّة في القصيدة :
بدا النص في مجمله
قصَّة شعريّة قصيرة ، احتوت العناصر الدراميّة بكل أبعادها ، مبرزة عاطفة الألم التي ملأت قلب
الشاعر وسيطرت
على
مشاعره ، ولا نعلم إذا كانت هذه القصة حقيقيّة لأم خياليّة ، إلا أنها جاءت ولها بداية ووسط
ونهاية ، تعتمد على تسلسل الأفكار والمعاني ، مما حقق لها الوحدة العضويّة والوحدة الموضوعيّة . وللوقوف على
أركان القصة ، يظهر
المكان
وهو الصحراء ، والزمان هو زمان عاش فيه الحُطيئة ، استطاع الشاعر أن يحرِّك شخوصه
بفنيّة عالية وهم؛الأب والأبناء والضيف وإن لم يظهر صوت الأم والراوي ، وفي الحدث نرى امرأة فقيرة تعيش في الصحراء
مع أطفالها بدون
طعام
وماء ، يتنامى الحدث وتتوالى حركات الخوف والقلق والاضطراب عند الشخوص ، وتتأزَّم
العقدة عندما يرى الأب ضيفا قادما ولا طعام ، وتصل ذروة التّأزُّم في عرض الابن على أبيه ذبحه ، فيزداد الصراع
النفسي الداخلي عند
الأب
من خلال الحيرة والقلق ؛ روَّى ، أحجم ، همَّ . وتبدأ العقدة بالحل عندما يظهر قطيع من
الحمر الوحشيِّة قرب العين لشرب الماء .
بذلك اكتملت عناصر
القصّة التي رسمها الحطيئة ببراعة بأبيات قليلة مقتصراً على الأحداث الضروريّة ، وهذا هو
التَّكثيف في لغة
النقد
الحديث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق