بسم الله الرحمن الرحيم
تطور الفنون الشعرية في العصر العباسي الأول
الحياة الفكرية والعلمية وتأثيرها على الشعر:
في العصر العباسي انتقل مركز الحكم من دمشق الى بغداد في العراق، وفي هذا العصر نشطت الحياة الفكرية العلمية والأدبية، وتوافرت أسباب وعوامل التقدم الحضاري، وسمي ذلك العصر بالعصر الذهبي.
استمر العباسيون ينظمون في الأغراض الشعرية القديمة – أي الجاهلية والاسلامية-، ولكن بما يتلاءم مع حياتهم وأذواقهم، وبيئتهم وحياتهم الجديدة، وهناك من اعترض على بعض الأغراض القديمة، كالوقوف على الأطلال، ورأى فيها تقوقعا وشيء لا يتلاءم مع العصر. وفي هذا العصر ظهرت أغراض جديدة لم تكن من قبل، مثل: الغزل الفاضح، والشعر الخمري – شعر وصف الخمرة والتغني بها – وشعر الزهد، والشعر الفلسفي وغير ذلك وفي العصر العباسي نشطت حركة النثر بما يتلاءم والنهضة الحضارية واستخدم النثر في مجالات كثيرة كالموسوعات الأدبية، والسياسية والاجتماعية والتاريخية والعلمية، وفي هذا العصر وضعت قواعد البلاغة. وفي الأندلس نشأ الأدب العربي وكان باتصال مستمر مع تطور الأدب العربي العباسي.
مظاهر التطور في الشعر:
امتاز الشعر العباسي بدقة العبارة وحسن الجرس والايقاع، وذلك بتأثير الحضارة ورفاه العيش كماامتاز بخروجه على المنهجية القديمة في بناء وترتيب أجزاء القصيدة.وكثيراً ما ثار الشعراء على الأساليب القديمة، وفي ذلك يقول المتنبئ:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم أكل بليغ قال شعراً متيم ؟
وتمتاز القصيدة العباسية بوحدة البناء، وفيها صناعة وهندسة، مع استخدام الصور البيانية، فضلاً عن التجديد في الألفاظ المستعملة والموحية.
من مظاهر التطور الذي لحق بالشعر في عهد بني العباس الثاني نجد الآتي:
من حيث الوزن والقافية:
أصبح المجتمع الجديد مترفاً ميالاً الى اللهوِ وشاع فيه الغناء والغناء يلزمه المقطوعه الشعرية ذات الأوزان الخفيفة لا القصائد ذات الأوزان الطويلة فطوروا الأوزان القديمه بل استنبطوا أخرى جديدة أكمل نغما وأيقاعاً.
من حيث المنهج:
لقد تغيرت الحياة في المجتمع العباسي وطغت عليها المظاهر المدنية فترك ذلك أثره في الشعر حيث هجر بعض الشعراء المقدمة الطللية ولم يكتف بل دعا إلى ذلك في شعره كما فعل أبونواس في مطلع خمرياته وذلك بقوله :
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند واشرب على الورد من حمراء كالورد
ولما سجنه الخليفة على استهتاره واشتهاره بالخمر وأخذ عليه أن لا يذكرها في شعره قال:
اعر شعرك الأطلال والمنزل القفرا فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا
دعاني إلى نعت الطلول مُسلّط تضيق ذراعي أن أردّ له أمرا
فسمعاً أمير المؤمنين وطاعةً وإن كنت قد جشمتني مركباً وعرا
وقوله:
دع الرسم الذي دثرا يقاسي الريح والمطرا
وكن رجلاً أضاع العِر ضَ في اللذات والخطرا
وقوله:
صفة الطلول بلاغة القدم فاجعل صفاتك دوماً لابنة الكرم
و قد غلب الطابع العربي على الأعاجم الذين نظموا و كتبوا بالعربية، فتأثروا بالاتجاهات الأدبية العربية و انحصر تجديدهم ضمن القوالب التقليدية ، لذلك فإن العصر العباسي و إن حمّل الأدب الكثير من التجديد و لكن هذا التجديد كان دائما ضمن الأطر التقليدية. ومن الشعراء من ظل ينهج في بناء القصيدة النهج القديم محافظا على تماسكها وترابط أجزائها وخاصة عند فحول شعراء العصر العباسي.
لغة الشعر :
إن لغة الشاعر أصبحت سهلة واضحة مألوفة ابتعدت عن الغرابة والغموض . ولكن مظاهر الحضارة المادية وأوجه الثقافة الأجنبية فتحت الباب على مصراعيه لدخول الألفاظ غير العربية في الشعر كالنيروز والبستان والأسطرلاب والمهندس.وظهرت الزخرفه اللفظية في هذا العصر بشكل واضح بل من الشعراء من أخذ يكثر منها ، واهتم الشعراء كما قلنا بالصور الشعرية ممن عنوا بالتعبير عن المعاني بالفاظ تأنقوا في اختيارها.
الأفكار و المعاني:
أما عن الأفكار و المعاني، فقد كانت قوية دقيقة ، مرتبة في أول العصر كما في شعر أبي العلاء المعري و المتنبي و أبي فراس الحمداني، و جاءت في أواخر العصر تافهة مليئة بالألغاز و التكلف.
في العصر العباسي تطورت المعاني الشعرية عمقاً وكثافة ودقة في التصوير، فجاءت شاملة للحقائق الإنسانية وقد انصرف الشعراء عن المعاني القديمة إلى معان جديدة، يساعد على ذلك ما كسبه العقل العباسي من الفلسفة وعلم الكلام والمنطق، وما وصلوا إليه من أساليب فنية قوامها المحسنات اللفظية والمعنوية ومثال ذلك أن أبا تمام يجمع في قصيدة "فتح عمورية" بين العملية الفكرية والعملية الفنية، فأخرج من القصيدة شعراً جديداً راقياً، فيه من القديم مسحة ومن الجديد أخرج معاني وصوراً طريفة وكثرت في الشعر العباسي الأمثال والحكم (المتنبي والمعري)، وبرز فيه المنطق والأقيسة العقلية، وترتيب الأفكار (ابن الرومي، المتنبي). كما ظهر الإبداع في التصوير والإغراب في الخيال، ومجاراة الحياة والفنون في الزخرفة والنقش، والاهتمام بالألوان ابن الرومي، والبحتري.
الألفاظ و الأساليب و الصور و الأخيلة:
من الطبيعي أن ينعكس هذا التغير الجذري الذي حدث في الحياة العربية ثقافياً وفكرياً وحضارياً واجتماعياً على الأدب شعره ونثره فيعمق نظرة الشعراء الى الحياة .لأن الحياة العقلية ارتقت وأصبح الشعراء يلتمسون المعرفة ويتزودون بها ويحيلون هذه المعرفة بعد أن يتمثلوها إلى شعر يتميز بالمعاني العميقة والتصوير الحسن .وترصيعه بلآلىء البديع وتقريبه وتجميله بصور التشبيه والاستعارة وترتيبه وتنسيق أفكاره لميلهم إلى المنطق واستفادتهم من الفلسفة وعلم الكلام.ومن ذلك أنّ صفي الدين الحلي كتب إلى بعض الفضلاء وقد بلغه أنّه اطّلع على ديوانه وقال إنه لاعيب فيه سوى أنّه خال من الألفاظ الغريبة قائلاً:
إنّما الحيزبونً والدردبيسُ والطحا والنقاحُ والعلطبيسُ
والقطاريسُ والشقحطبُ والسقعبُ والخربصيصُ والعيطموسُ
والحرجيجُ والعقنقسُ والعفلقُ والطرفسانُ والعسطوسُ
لغة تنفر المسامعُ منها حين تُتلى أو تشمئزُ النفوسُ
وقبيح أنْ يُسلك النافرُ منها ويُترك المأنوسُ
إنّ خير الألفاظ ماطرِبَ السامعُ منه وطابَ فيه الجليسُ
أين قولي هذا كثيبٌ قديمٌ ومقالي عفقلٌ قدموسُ
لم نجد شادناً يُغني قفا نبك على العود إذ تُدار الكؤوسُ
أتراني إذا قلت للحبّ علقٌ درى أنّه الغزيزُ النفيسُ
أو تراه إذا قلتُ خبَّ العيرُ أنْ أقول سارَ العيسُ
درستْ هذه اللغات وأضحى مذهبُ الناسِ ما يقولُ الرئيسُ
إنّما هذه القلوبُ حديدٌ ولذيذُ الألفاظِ مغناطيسُ
أما عن الألفاظ و الأساليب و الصور و الأخيلة، فكانت تمتاز بالقوة و الجزالة وروعة التصوير و جمال الخيال و العاطفة الصادقة، أمّا في أواخر العصر فقد أصبحت ضعيفة ركيكة مثقلة بالمحسنات البديعية، سقيمة متكلفة.
وقد تُلاحظ مع سهولةِ الألفاظ الشِعْرية بالنسبة إلى شعر الجاهلية والشعر الأموي شيئاً مهماً، وهو تسرُّب بعض الكلمات الأعجمية إلى الشعر تظرّفاً، مع اهتمامٍ بالموسيقى الصوتيّة التي تأتي من تناسب الكلمات، وميلٍ إلى البحور القصيرة، ذات الوزن المطرب، وهذا ما يُناسبُ التعبير عن مجالس الأنس وأوقات الصفاء.
نماذج من الفنون الشعرية في العصر العباسي
أوّلا : المديح
المديح ثناء حسن يرفعه الشاعر إلى إنسان حيّ أو جماعة أحياء , عرفانا بالجميل أو طلبا للنوال , أو رغبة في الصفح والمغفرة , أو تمجيدا لقيم إنسانية تتجسد في سلوك قائد أو أمير , أو شخصية تاريخية فذة مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي مدحه الشعراء من حسان بن ثابت إلى أحمد شوقي إلى غيرهما من
وفيما يلي أهم التطورات الحادثة على قصيدة المديح في العصر العباسي
- كان المديح في العصر العباسي ذا طابع تكسبي, ومن هذا المنطلق كان الممدوحون يغدقون الأموال على الشعراء , وينادمونهم ويقربونهم ، تذكر المصادر أن مروان بن أبي حفصة مدح المهدي فاستهل مدحته برقيق الغزل فقال :
طرقتك زائرة فحيّ خيالها *** بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها *** قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
ثم يصل مروان بن أبي حفصة إلى لب القصيدة وفكرتها
هل تطمسون من السماء نجومها *** بأكفكم أو تسترون هلالها .
أو تجحدون مقالة عن ربكم *** جبريل بلغها النبيّ فقالها .
شهدت من الأنفال آخر آية *** بتراثهم فأردتهم إبطالها
فيزحف المهدي من صدر مصلاه حيث كان جالسا حتى صار على البساط إعجابا بما سمع , ثم يقول لمروان : كم هي ؟ فيقول مائة بيت , فيأمر له بمائة ألف درهم فكانت أول مائة ألف أعطيها شاعرا في أيام العباسيين
التزموا بنظام القصيدة القديمة في أكثر الأحيان , ولكنهم غيروا من رمزية هذه الأركان , فاستبقوا على الأطلال والرحلة في الصحراء غير أنهم اتخذوها رمزا، أما الأطلال فلحبهم الداثر وأما رحلة الصحراء فرحلة الإنسان في الحياة ومثاله قول مسلم بن الوليد :
هلا بكيت ظعائنا وحمولا *** ترك الفؤاد فراقهم مخبولا
فإذا زجرت القلب زاد وجيبه *** وإذا حبست الدمع زاد همولا
وإذا كتمت جوى الأسى بعث الهوى *** نفسا يكون على الضمير دليلا
واها لأيام الصبا وزمانه *** لو كان أمتع بالمقام قليلا
النداء بالتخلي عن المقدمات التقليدية بل بدلت بالفعل مقدمة البكاء على الأطلال أو مقدمة النسيب التقليدي أو سواها بمقدمات وصف الخمرة ومجالس للهو والعبث والتغزل المتهتك , ولم يتوقف تطور قصيدة المدح عند هذا الحد , بل تعداه إلى عنصر الرحلة حيث استعاض الشعراء عن وصف الناقة والصحراء وحيوان الوحش بالحديث عن الرحلة البحرية ووصف السفينة وأهوال البحر , وأحيانا يقدمون مدحتهم بوصف الرياض في الربيع فمثال المقدمة الخمرية والنداء بالتخلي عن المقدمة الطللية قول أبي نواس:
قل لمن يبكي على رسم درس *** واقفا ما ضر لو كان جلس
تصف الربع ومن كان به *** مثل سلمى ولبينى وخنس
ومثال وصف الرحلة البحرية ووصف السفينة قول مسلم بن الوليد :
كأن مدب الموج في جنباتها *** مدب الصبابين الوعاث من العفر
كشفت أهاويل الدجى عن مهولة *** بجارية محمولة حامل بكر
لطمت بخديها الحباب فأصبحت *** موقفة الديات مرتومة النجر
إذا أقبلت راعيت بقنة قرهب *** وإن أدبرت راقت بقادمتي نسر
ثالثا الرثاء
ظل شعر الرثائي منذ الجاهلية كباقي الأغراض الأخرى مواكبا لركب الحياة يتطور ويتجدد تبعا لتطورها وتجددها , فلما دانت الرقاب لبني العباس اقتفى شعراؤهم نهج أسلافهم من شعراء أمية في مراثيهم التي كانوا يجمعون في أكثرها بين التهنئة والتعزية
-ومن الشعراء العباسيين الذين تحقق لهم الجمع بين التهنئة والتعزية أبو نواس الذي يعزي الفضل بن ربيع عن الرشيد ويهنئه بالأمين :
تعز أبا العباس عن خير هالك *** بأكرم حيّ كان أو هو كائن
حوادث أيام تدور صروفها *** لهن مساوٍ مرة ومحاسن
وفي الحي بالميت الذي غيّب الثرى *** فلا الملك مغبون ولا الموت غابن
-وظهرت ضروب جديدة للرثاء لم تكن معروفة قبل هذا العصر كرثاء المدن فهذا ابن الرومي( 255 يرثي مدينة البصرة عندما أغار عليها الزنج فنهبوها وأحرقوها فقال واصفا تلك الفضائع:
ذاد عن مقتلي لذيذ المنام *** شغلها عنه بالدموع السجام
أي نوم من بعدما حل بالبصرة *** ما حل من هنات عظام
أي يوم من بعدما انتهك الزنج *** جهارا محارم الإسلام
- ومن ضروب الرثاء الجديدة مراثي الطير الصادح مثل القمري والحيوانات المستأنسة والأحصنة ،فقد رثى ابن الزيات فرسا له أشهبا لم ير مثله فراهة وحسنا أخذه منه المعتصم فقال
كيف العزاء وقد مضى لسبيله *** عنا فودعنا الأحمّ الأشهب
منع الرقاد جوى تضمنه الحشا *** وهوى أكابده وهم منصب
- وتعتبر المعاني الحضارية التي أدخلت في الرثاء إحدى مظاهر التجديد التي عرفها هذا الغرض كالذي نراه في رثاء المغنين وأهل اللهو حيث شاعت فيهم معان لم يألفها الرثاء من قبل , فبينما كان يرثى قديما بصفات النجدة والمروءة والكرم والشجاعة وما إلى ذلك من الصفات، أصبح بعض الناس في بغداد يرثي بمثل ما رثى به ابن سيابة إبراهيم الموصلي فيقول:
تولى الموصلي فقد تولت *** بشاشات المزاهر والقيان
وأي بشاشة بقيت فتبقى *** حياة الموصلي على زمان
ستبكيه المزاهر والملاهي *** وتسعدهن عاتقة الدنان
رابعا : الوصف
- ومن الموضوعات التي دار حولها الوصف عند أكثر من شاعر في هذا العصر وصف الخمر والغناء ووصف مجالسهما وآلاتهما، وجاهروا بالدعوة إلى ممارسة ذلك وبالغوا في الأمر مما نجم عنه الاستهتار بالدين
*فأبو نواس جاهر بالخمر والدعوة إليها فيقول
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر *** ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
فعيش الفتى في سكرة بعد سكرة *** فإن طال هذا عنده قصر العمر
وما الغبن إلا أن تراني صاحيا *** وما الغنم إلا أن يتعتعني السكر
فبح باسم من أهوى ودعني من الكنى *** فلا خير في اللذات من دونها ستر
*وقال في قصيدة أخرى
لا تبك هندا ولا تطرب إلى كعب *** واشرب على الورد من حمراء كالورد
كأسا إذا انحدرت من حلق شاربها *** أجدته خمرتها في العين والخد
فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة *** من كف لؤلؤة ممشوقة القد
تسقيك من طرفها خمرا ومن يدها *** خمرا فمالك من سكرين من بد
لي نشوتان وللندمان واحدة *** شيء خصصت به من بينهم وحدي
- وأخذ الشاعر العباسي يصف الطبيعة في الحاضرة ببساتينها ورياحينها , وقد أخذ يخص هذه الطبيعة بمقطوعات وقصائد كثيرة حيث أصبحت موضوعا جديدا واسعا , وكان يمزج نشوته بها في بعض الأحيان بنشوة الحب أو نشوة الخمر وسماع القيان وفي كثير من الأحيان كان يقف عند تصوير فتنته بها وبورودها ورياحينها من مثل قول إبراهيم بن المهدي في النرجس
ثلاث عيون من النرجس *** على قائم أخضر أملس
يذكرنني طيب ريّا الحبيب *** فيمنعنني لذة المجلس
-وقد أكثروا من وصف الأمطار والسحب ووصف الرياض خاصة في الربيع , وعبروا عن أحاسيسهم ومشاعرهم أحيانا خلال هذا الوصف , ومن خير ما يصور ذلك مخاطبة مطيع بن اياس لنخلتي حلوان :
أسعداني يا نخلتي حلوان *** وأبكيا لي من ريب هذا الزمان
واعلما أن ريبه لم يزل يفـ *** رق بين الألاف والجيران
ولعمري لو ذقتما ألم الفر **** قة أبكاكما الذي أبكاني
أسعداني وأيقنا أن نحسا *** سوف يلقاكما فتفترقان
كم رمتني صروف هذي الليالي *** بفراق الأحباب والخلاّن
- ونرى شعراء كثيرين يعنون بوصف مظاهر الحضارة العباسية المادية وما يتصل بها من الترف في الطعام والتأنق في الملابس والثياب ووصف القصور وما حولها من البساتين وما يجري فيها من الظباء والغزلان من مثل قول أبي عيينة المهلبي في وصف قصر ابن عمه عمر بن حفص:
فيا طيب ذاك القصر قصرا ومنزلا*** بأفيح سهل غير وعر ولا ضنك
بغرس كأبكار الجواري وتربة *** كأن ثراها ماء ورد على مسك
وسرب من الغزلان يرتعن حوله *** كما استل منظوم من الدّر من سلك
- وأكثروا من وصف الحيوان والطير والحشرات , واشتهر بذلك خلف الأحمر وجهم بن خلف وفي كتاب الحيوان للجاحظ من ذلك مادة وافرة
خامسا الغزل
الغزل فن وأدب وجداني وظيفته التعبير عن الأحاسيس في عالم الحب دون سواها من المواضيع الأخرى
أ-الغزل الحسي
لعبت البيئة العباسية الفاسدة في أكثر مظاهرها الاجتماعية دورا خطيرا في إشاعة تيار الغزل الحسي الفاحش ونشره , ومن أمثلة الشعر الذي يكشف عن حقيقة المرأة الجارية وكيف كانت تجري وراء الرجال من أجل ايقاعهم معها في الفواحش قول مطيع بن إياس التي كان يألف " بربر " صاحبة الجواري , التي كانت ترسل جواريها ومن بينهم جوهر الجارية لتفسد عسكر المهدي فقال :
خافي الله يا بربر *** لقد أفسدت العسكر
بريح المسك والعنبر *** وظبي شادن أحور
وجوهر دره الغوا *** ص من يملكها يجبر
فلا والله ما المهدي *** أولى منك بالمنبر
ب- الغزل العفيف
يعد العباس بن الأحنف إمام الغزل العفيف، إن القارئ لديوان الشاعر يدرك بأنه لم يقل شعرا إلا في محبوبة واحدة هي فوز , أما ظلوم و" دلفاء " فليس لهما حظ في الديوان فقد ذكرهما مرة أو مرتين , فهما على ما يظهر صفتان في الغالب أطلقهما على محبوبته فوز التي تغزل فيها تغزلا عفيفا , ويتضح ذلك من قوله:
وما بيننا من ريبة فنراقبها *** ولا مثلها يرمى بسوء ولا مثلي
وإني لأرعى حق فوز وأتقي *** عليها عيون الكاشحين ذوي الختل
وإني وإياها كما شفنا الهوى *** لأهل حفاظ لا يدنس بالجهل
وقوله أيضا
قالت ظلوم سمية الظلم *** مالي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فأقصده*** أنت العليم بموضع السهم
وقوله أيضا
لا جزى الله دمع عيني خيرا *** وجزى الله كل خير لساني
نمّ دمعي فليس يكتم شيئا *** ورأيت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي *** فاستدلوا عليه بالعنوان
وشعر الغزل في العصر العباسي تأثرت لغته بالحياة الاجتماعية المتحضرة
الجديدة , وبالثقافة الشائعة آنذاك , مما جعل الشعراء يستخرجون للورود والرياحين لغة خاصة كانوا يخاطبون بها أحباءهم، وكذلك ما كان شائعا عندهم من "اللبان والتفاح والريحان والسواك
*ومن أبرز ملامح الغزل العفيف اقتصار الحب على واحدة على خلاف أصحاب التيار المضاد , والتزام العفة وطهارة الضمير , زيادة على شيوع ألفاظ ومعان حضارية مستجدة , والميل بهذا الفن نحو الأسلوب السهل السلس
سادسا " الزهد
شعر الزهد هو الشعر الداعي للتقشف من الحياة الدنيا ومتعها والاشتغال بالآخرة ولوازمها من عبادة وانقطاع إلى الله , وهو الشعر الذي يصف دون تزييف حقيقة الدنيا وأنها متاع الغرور وأن الآخرة خير وأبقى وكان الإمام البارز في هذا المجال , الشاعر أبو العتاهية الذي كان غافلا في أول شعره , ثم لبس الصوف وتزهد , وأكثر في هذا الغرض , وصارت له فلسفته الخاصة في الزهد , والإعراض عن الدنيا
دنياك غرارة فذرها *** فإنها مركب جموح
دون بلوغ الجهول منها *** منيته نفسه تطيح
وهو يتصور الحياة الآمنة في عزلته ,وتعبده فيقول في بساطة
رغيف خبز يابس ** تأكله في زاوية
وكوب ماء باردا ** تشربه من صافية
وغرفة ضيقة ** نفسك فيها خالية
أو مسجد بمعزل ** عن الورى في ناحية
خير من الساعات في ** فيء القصور العالية
وشعره في الزهد تغلب عليه البساطة في اللفظ : حتى يكون قريبا إلى أفهام الناس جميعا ومنها شعره المزدوج الذي لا يراعى فيه وحده القافية إلا في صدر البيت وعجزه , ونجد ذلك في أرجوزته التي تعد من بدائعه , وهي طويلة جدا , يقال إن فيها أربعة آلاف مثل وقد سماها أبو العتاهية بذات الأمثال والتي يقول فيها:
حسبك مما تبتغيه القوت *** ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيها جاوز الكفافا *** من اتقى الله رجا و خافا
هي المقادير فلمني أو فذر*** إن كنت أخطأت فما خطا القدر
لكل ما يؤذي وإن قلّ ألم *** ما أطول الليل على من لم ينم
ما انتفع المرء بمثل عقله *** وخير ذخر المرء حسن فعله
إن الفساد ضدّه الصلاح *** ورب جد جره المزاح
من جعل النمام عينا هلكا *** مبلغك الشرّ كباغيه لكا
إن الشباب والفراغ والجدة*** مفسدة للمرء أي مفسدة
وحتى الشاعر أبو نواس لما انهى جسمه , وشعر بالانتقام الرباني , وأن أجله المحتوم يقترب , تاب وسأل الله العفو والغفران فقال :
دب فيّ السقام سفلا وعلوا *** وأراني أموت عضوا فعضوا
لهف نفسي على ليال وأيام *** تجاوزتهن لعبا ولهوا
قد أسأنا كل الإساءة فا للهم *** صفحا عنا وغفرا وعفوا
الأغراض الشعرية المستحدثة
أولا : الشعر التعليمي
تعريفه : هو ما ألف نظما لتسهيل حفظ العلوم أو الفنون الأدبية
ويعتبر السيد الحميري أول من نظم في شعرنا العربي نموذجا من الشعر التعليمي , ضمنه جملة من المناقب والفضائل الحميدة والسير النبيلة كالتي تروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبنائه
أتى حسن والحسين النبي ** وقد جلسا حجره يلعبان
ففداهما ثم حياهما ** وكانا لديه بذاك المكان
فراحا وتحتهما عاتقاه ** فنعم المطية والراكبان
*ونتيجة لاتساع الحركة العلمية وازدهار الثقافة العربية وبخاصة في أيام المنصور والرشيد والمأمون الذين حرصوا على نقل ما أمكن من العلوم والمعارف العقلية والإنسانية كالطب والصيدلة والقانون والحكمة والموعظة وعلم النجوم والرحلات وسواها ، فإن بعض الشعراء قد اهتدوا إلى تحصيل بعض العلوم وتدوينها بواسطة الشعر التعليمي حتى يسهل حفظها بكل يسر وسهولة
*ويعتبر إبان بن عبد الحميد اللاحقي أول من بدأ هذا النوع من الشعر التعليمي بغرض تسهيل حفظ العلوم وتدوينها وذلك في القرن الثاني الهجري ونظم ابن سينا(ت 428هـ)منظومته في المنطق ونظم الحريري منظومة في ملحة الإعراب.
ثانيا:الشعر الفلسفي
يعتبر أبو العلاء المعري شاعر فلسفة الحياة , وهو أول شاعر ينظم ديوانا كاملا في الفلسفة يدعى " اللزوميات " وفيه ملخص للمذاهب الفكرية السائدة في عصره
فهو يرى أن السلطة المدنية فاسدة بسبب المكر والرشوة , والحكام أصحاب فوضى ويتبعون هواهم , ويحكمون الرعية بالظلم وينعمون بمالها وثمرة تعبها فيقول
يسوسون الأموربغير عقل *** فينفذ أمرهم ويقال ساسه
فأف من الحياة وأف منّي *** ومن زمن رئاسته خساسه
ثالثا : الغزل بالمذكر (أو الغزل الشاذ لم يعرف العرب قبل النصف الثاني من القرن الهجري مثل هذا الميل إلى الغلمان كما عرف في الأمم السابقة،أي قبل اختلاطهم بالأمم الأجنبية .
*ويعتبر أبو نواس من الشعراء المولدين الذين ورثوا دماء فارسية فتغزلوا بالغلمان وأسسوا هذا الفن . يقول أبو نواس
يا من يقول الغواني *** أحلى جنى و التزاما
خذ النساء ودع لي *** مما يلدن غلاما